ملخص المقال
ها قد جاءت العشر الأواخر.. عشر الجد والتشمير.. والتهجد والقيام.. وإيقاظ الأهل كما كان ديدن المصطفى صلى الله عليه وسلم
أحبتي الصُّوَّامُ القوَّامُ.. ها قد جاءتِ العشرُ الأواخرُ.. عشرُ الجِدِّ والتشمير.. والتهجد والقيام.. وإيقاظ الأهل، كما كانَ ديْدَنُ المصطفى r. فيا فرسان القرآن، هذه أيامٌ عظيمة من أيام الله الخالدة، ألاَ فتعرضوا لنفحاتها الناصعة المشرقة المضيئة بما يليق وجلالَ عَظَمَتِها، وعظمةِ ليلة القدر التي تحتويها ساعاتُها ولحظاتُها الغوالي.
واذكُرُوا أن أوَّلَ أيامها العظيمة،كان يومًا من أيام الزمان التي ستبقى بحدثها العظيم فيصلاً من فواصل الحسم بين النور والظلام.. بين الهدى والضلال.. بين الحق المنتصر والباطل المندحر.. العشرون من غرة رمضان الفضيل.. تعود بنا صحائفُ المجد والعَظمة إلى سيرةِ حبيبنا وقائدنا الأعظم وقدوتنا -عليه الصلاة والسلام- فيتوقف بنا ركبُ التاريخ الناصع حيث السنة الثامنة للهجرة.. حيث النصرُ الأكبرُ والفتحُ الأعظم.. فتحُ مكة.. هذا الحدث الذي ترفُّ قلوبُنا وأرواحنا إلى جلال عظاته، وبركة انتصاراته، فكان فيه من المجد والرقة ما كان فيه..!!
أيةُ عظمةٍ وشموخ وإباء، ونحن نرقَبُ رسولَ الله r بين أصحابه وجنوده الذين احتووه بأنفسهم وقلوبهم وعقولهم، وافتدوهُ بدمائهم وأموالهم وأبنائهم ودنياهم.. وكأني به، وهو بينهم، على ناقته الملهمَة (القصواء) محاطٌ بعشرة آلاف نجم من نجوم البشرية الأزاهر، فكان كالكوكب الدُّرِّيِّ بين السواطع..!!
كأني به وهو يتهادى الهُوَيْنى مع جيش الحق الفاتح، ولكأني بمكة الطهورة تفتح أبوابَها الثلاثة، تردد مع الفاتحينَ أهازيج النور وتراتيل النصر، فيتجاوبُ صداها بين جبالها الظمْآى لقطر الندى الإيماني الذي سيغسلُ بعد قليل أدرانَ الجاهلية وأنجاسها وأركاسها ووعثائها.. جبلُ أبي قبَيْس.. وجبلُ النور.. وحِِرَاءُ الإسلام التليد.. انتفضتْ وهادُها وسهوبُها وحجارتُها السود، ترنو بعجاجة تربتها، تكاد من الشوق واللهفة تحترق لاحتضان (مُحَمَّدِهَا) الصادق الأمين r. فكانَ حُدَاءً جميلاً اهتزتْ له أصقاعُ مكة َ والبطاح.. (الله أكبر.. الله أكبر.. لا إله إلا الله.. الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله بكرةً وأصيلاً.. الله أكبرُ وحده، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وخذلَ الأحزابَ وحده.. لا إله وحده.. مخلصين له الدين ولو كره الكافرون...).
وما لبثت القلوبُ تخشعُ لجلال المشهد العظيم.. وما فتئتِ العيون تدمعُ تحميدًا لرب الأرض والسماء، وهي تلحظ النبيَّ القائدَ فوق ناقته وقد انخشعَ جسدهُ لله -تعالى- تواضعًا ولينًا وشكرًا، فانحنى رأسه الشريف حتى ليكادُ عثنونُه يلامس سنامَ الناقة، فكانَ منظرًا أيَّ منظر! وكان درسًا وعظةً للبشرية كلها.. في فورة الحماس ونشوة النصر، يصرخ سعد بن عبادة t وقد كان قائدَ لواء: (... هذا يومُ الملحمة!!).
ولو لم يجد من يعترض عليه لَمَا لاَمهُ أحد..!! فإنه يوم القصاص العادل من هؤلاء الجَحَدة المشركين الذين حاربوا اللهَ ورسولَه، فلم يرقبوا في النبي الكريم وأصحابه المهاجرين يومًا إلاًّ ولا ذمة.. ولكن الصرخة (السعدية) اللازبةَ، قابلتها صرخةٌ (محمديةٌ) نورانيةٌ، وقفَ الكونُ والتاريخ والزمانُ والمكانُ يسجل نَغَمَها العذبُ الرقيق العميق.. ردَّ عليه النبيُّ r: "بل هذا يومُ المرحمة"!! فيُعفى سعدُ بن عبادة من إمرة اللواء، ويقومُ ابنهُ قيسُ بن سعد مكانه..!!
نعمْ.. هذا يوم المرحمة.. يوم الانعتاق.. يوم الإنسانية المعذبة لتستريح تحت وارف أمن الإسلام وأتباعه.. وسرتِ الطمأنينةُ تملأ القلوبَ الخائفة والأفئدة المذعورة.. وتسامَع الناسُ النداءاتِ الجديدة التي لم تكن الجاهلية تعرف لها طعمًا ولا معنًى يومًا.. لا تعنفوا بمكة وارفِقوا بأهلها.. "من أغلق بابه فهو آمِن، ومن دخل المسجدَ فهو آمِن، ومن دخلَ دارَ أبي سفيان فهو آمن"!!!
وما طفق الزمانُ يستيقظ من هذه الصورة الخالدة من صور العفو والتسامح، حتى تفاجأ بصورةٍ أعظم وأخلد.. وقف النبي r -في الحرم الطهور- يحطم بدينه الحق رأسَ هُبل السخيف، ويُكسر بأنف اللات والعزى ومناة وإساف.. وتحيط قبضة الحق بأهل مكة الذين آذوْهُ واضطهدوه وعذّبوا أصحابه ونكَّلوا بهم، وأخرجوه عنوةً من بلده الحبيب.. فيرفع بصره الشريف، ليَفترَّ ثغرهُ الكريم عن ابتسامةٍ أذابتْ في قلوب الأهالي كل وحشة وغربة وخوف..
سألَ الناسَ بحنان: "يا أهلَ مكة، ما تظنون أني فاعل بكم..؟؟!!" قالوا: أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ. قال: "اذهبوا، فأنتُم الطلقاءُ..!!!". فكانتْ كلمةً زلزلتِ القلوبَ، وأذابتِ الوجوهَ، وأسالتِ العيونَ.. وإذ بالناس يدخلون في دين الله أفواجًا.. وإذ برمضان في عشرينِه يسجِّلُ للدنيا رقيقةً حانيةً ننهل من رحيقها العذبِ شهدًا لا ينقطع إلى يوم الدين[2].
التعليقات
إرسال تعليقك